تقرير : خالد فواز
شهد العالم خلال القرنين الماضيين تحولات جوهرية في مركز الثقل المالي الدولي. فمع اتساع النفوذ البريطاني في القرن التاسع عشر، كان الجنيه الإسترليني هو العملة الأولى في التجارة الدولية والأسواق العالمية. غير أن الحرب العالمية الأولى أنهكت الاقتصاد البريطاني، وتركت فراغًا واسعًا مهّد لصعود قوة جديدة: الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأ النفوذ الأمريكي منذ استقلال الولايات الثلاث عشرة، ثم توسعت الدولة الجديدة عبر الشراء والحروب والاتفاقات، حتى أصبحت أكبر سوق موحَّدة في العالم. ومع اندلاع الحربين العالميتين، وجدت أمريكا نفسها في موقع اقتصادي متين بينما كانت أوروبا تتداعى اقتصاديًا؛ فاستغلت ذلك لتتحول إلى الدائن الرئيسي للحلفاء، تمدهم بالمال والسلاح والمواد الغذائية. وهكذا أصبح العالم مدينًا لها، وأصبح الدولار هو العملة التي تُسدَّد بها هذه الالتزامات.
ومع اتساع دور أمريكا المالي، اعتمدت المؤسسات الدولية الكبرى — كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وجي بي مورغان، وجولدمان ساكس — الدولار كعملة رئيسية في الإقراض والتمويل، وهو ما عزز مكانته في النظام الاقتصادي العالمي.
وفي عام 1944 جاء مؤتمر بريتون وودز ليضع الأساس للنظام النقدي الحديث، حيث رُبطت عملات العالم بالدولار، بينما رُبط الدولار بالذهب بسعر ثابت قدره 35 دولارًا للأونصة. وفي الوقت نفسه أطلقت الولايات المتحدة خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا المنهكة، بهدف منع صعود الاشتراكية وإعادة تشغيل الأسواق الأوروبية بما يخدم مصالحها الاقتصادية.
ظل هذا النظام قائمًا حتى 1971، حين أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون وقف تحويل الدولار إلى ذهب، وهو القرار الذي عُرف تاريخيًا بـ صدمة نيكسون. ومنذ ذلك الحين أصبح الدولار عملة مستقلة تعتمد على قوة الاقتصاد الأمريكي ذاته. ورغم هذا التحول، استمر الدولار في قيادة التجارة الدولية وتسعير الموارد الأولية والسلع الحيوية، حتى صار الطلب عليه جزءًا أساسيًا من حركة الاقتصاد العالمي.
بل إن الولايات المتحدة نفسها واجهت اختبارًا حقيقيًا خلال حرب فيتنام، حين زادت معدلات طباعة الدولار وارتفع التضخم، لكنها نجحت في امتصاص هذه الكتلة النقدية واستعادة الثقة في عملتها، ما يؤكد قدرة الاقتصاد الأمريكي على حماية مكانة الدولار.
هل يمكن للعالم تقليل الاعتماد على الدولار؟
رغم أن هيمنة الدولار تبدو راسخة، فإن التخلص منها لا يمكن أن يحدث دفعة واحدة، لكنه ممكن تدريجيًا عبر مجموعة من السياسات:
1. تعزيز الإنتاج المحلي
لا قيمة لأي عملة ما لم تستند إلى اقتصاد قوي. لذلك فإن زيادة الإنتاج، ورفع مستوى الابتكار، والتحول للصناعات عالية القيمة، هي الطريق الحقيقي لرفع قوة العملة المحلية.
2. تنويع الاحتياطيات النقدية
اعتماد البنوك المركزية على الذهب والفضة والسلع الاستراتيجية يقلل من المخاطر ويرفع القدرة على مواجهة تقلبات الدولار.
3. ضبط سوق الصرف
منع المضاربات وتقليل التداولات خارج النظام المصرفي خطوة أساسية لوقف الارتفاعات غير المبررة في سعر الدولار.
4. توطين الصناعة
معرفة السلع المستوردة وإنتاج بدائل محلية لها يقلل الطلب على الدولار. ويُفضَّل أن يُلزَم المستثمر الذي يقلل الاستيراد بدفع فرق الضريبة دعماً للصناعة الوطنية.
5. الاتفاقات الثنائية
التعامل بين الدول بعملاتها المحلية خطوة عملية لتقليل الاعتماد على الدولار في التجارة.
6. التحوط البنكي
استخدام أدوات التحوط يحمي المؤسسات والشركات من التقلبات المفاجئة لسعر الدولار.
ومع بناء قاعدة إنتاج قوية، يمكن للدول إصدار سندات دولية بعملتها المحلية، وهو ما يرفع مكانة العملة في الأسواق العالمية شريطة أن تكون هناك ثقة دولية في الأداء الاقتصادي للدولة.
وفي النهاية، تبقى ثقة الأفراد هي الأساس في قوة أي عملة. فقد انتقلت البشرية من المقايضة إلى الذهب، ثم إلى الورق، ثم إلى الأموال الرقمية، واليوم نرى العملات المشفرة. وكل ذلك يثبت أن قيمة العملة لا تُصنع إلا عبر الثقة

















